الأقباط والخروج من حالة التقوقع والصمت



كتب: عمرو عزت






وسط مشاركة سياسية ضعيفة لعامة المصريين وللمسيحيين بوجه خاص.. يواجه المسيحى الذى ينشط فى المجال العام العديد من الخيارات الصعبة: التوجه والأسلوب، تحمل العلاقة المعقدة بمحيطه، وكيف يظل داخل مجتمع الأقباط مستقلا عن الكنيسة وناقدًا لها أحيانا وهى التى تعلم رعاياها أن «ابن الطاعة تحل عليه البركة!»



بعد ساعات من الاعتداء على كنيسة نجع حمادى كانت هالة المصرى، الناشطة القبطية والمدونة، أمام المستشفى وسط أهالى الضحايا والمصابين. بلغها النبأ بينما كانت تشاهد عظة البابا شنودة فى منزلها بمدينة قنا، على الفور اتصلت بزوجها وتوجهت معه بصحبة أطفالهما إلى نجع حمادى.



بمجرد دخول هالة المصرى وأسرتها إلى ساحة المستشفى، تدافع عدد من المحتدين عليها ليقولوا معا: «كتبتِ كثيرا وصورت كثيرا، ولكننا مازلنا نقتل! لم تغيرى لا أنت ولا غيرك شيئا من حالنا!» ثم اندفعوا فى عتاب حاد على كل النشطاء الأقباط فى الداخل والخارج وعلى كل أجهزة الدولة التى وصفوها بالظالمة.



ولكن فى النهاية هدأت أعصابهم وتحدثوا معها وحكوا لها طوال الليلة التى قضتها معهم قبل أن تعود وتدون التفاصيل على مدونتها «أقباط بلا حدود» وترفقها بصور للمصابين فى المستشفى وصور شخصية للضحايا أضافت إليها شريطا أسود فى الزاوية وكتبت عليها أسماء المفقودين مسبوقين بـ«الشهيد»، وفى النهاية كتبت صارخة: «آه! يا النار! الصبر من عندك يا رب!»



تكرس هالة المصرى مدونتها فى الأغلب لقضايا الأقباط، تنتقل لمواقع الأحداث والمشكلات. تعبر عن رأيها وتنقل آراء الناس، تنتقد الدولة كثيرا والكنيسة أحيانا. موقفها المستقل يجعلها دائما وسط مشكلات وانتقادات وجدل، تعرضت للاعتقال والفصل من عملها. ولكن رغم ذلك فإنها ليست وحدها، بل هى جزء من نمط جديد ومتزايد من «النشطاء الأقباط» الأكثر استقلالا وفردية على الرغم من اشتراك بعضهم فى مجموعات سياسية أو حقوقية، وذلك مقارنة بالنشطاء الأقباط المعروفين والذين يعملون من خلال منظمات قبطية هنا أو فى الخارج تعمل وسط خلافات كبيرة، على وفاق مع الكنيسة أو فى خصام معها.



تقول هالة المصرى: «عام 2006 عندما وقع حادث العديسات كنت وحدى فى الصعيد تقريبا الذى ينشط ويدون، ولكن الآن هناك عشرات من النشطاء الأقباط والمدونين الذين يعلنون عن أنفسهم، بالإضافة إلى المئات من غير الظاهرين الذين يساعدونهم ويتمنون أن يكونوا مثلهم. فى البداية تعرضت لهجوم وعدم تفهم، ولكن الآن الكثيرون يقولون لى: نريد أن نكون مثلك. ندون ونتحدث عن مشكلات الأقباط».



ترى هالة المصرى أن أهم ما يقدمه النشطاء الأقباط هو التعبير عن نبض عامة المسيحيين، بينما ترى أن الكنيسة محكومة بتوازناتها مع الدولة وحساباتها مع الأمن، وترى الصحافة تنقل مشكلات الأقباط من خلال تحريات الشرطة وتصريحات رجال الكنيسة. وعلى الرغم من أنها تعرضت لفترات طويلة لهجوم بعض الصحف بسبب خلافها مع مركز «الكلمة» القبطى لحقوق الإنسان بعد فترة تعاون فإن النقاشات فى المنتديات ــ مثل منتدى الأقباط الأحرار ــ كانت فى صفها وداعمة لها وتذكر جهودها وجرأتها.



على خلاف هالة، يعرب مايكل نبيل، الناشط بحزب الجبهة الديمقراطية فى أسيوط عن أسفه لأن نفس التقدير لا يلقاه النشطاء الأقباط الذين لا ينشطون بهذه الصفة ويفضلون أن ينشطوا سياسيا أو حقوقيا: «قد ينحاز الناس ويتعاطفون مع ناشط يتحدث بشكل مستمر عن مشكلات الطائفة ومطالبها.



ولكن حين يكون ناشطا سياسيا يدافع عن حقوق كل الأقليات، بما فيها مثلا حق ماكسيموس وأتباعه فى تأسيس طائفة، ينظر إليك الوسط المسيحى بعداء أو توجس على الأقل. هذا بخلاف رأيهم بعدم جدوى النشاط السياسى بالأساس مثل باقى المصريين واعتباره مضيعة للوقت والجهد وبهدلة ونحتا فى الصخر».



الكنيسة تفهم أكثر

الموقف من الناشط يتأثر أيضا بعلاقته بالكنيسة، فكما يقول مايكل نبيل إن معظم المسيحيين يرون أن البابا والأساقفة ومؤسسة الكنيسة هى الأكثر قدرة على التعامل مع مشاكلهم وتمثيلهم سياسيا.



يتهم مايكل نبيل الكنيسة بأنها تتخذ موقفا سلبيا من انضمام الشباب إلى أحزاب، لأنها تحشد الأقباط خلف الحزب الوطنى وتخوفهم بفزاعة الإخوان المسلمين. ويقول إن بعض أصدقائه قاموا باستشارة أساقفة فنصحوهم بالعدول عن ذلك، كما أن تعبيره عن رأيه بشكل ما ظهر فيه موقفه السياسى تسبب فى طرده من أحد الأديرة.



أما الموقف من النشطاء الأقباط ممن لهم شعبية وسط المسيحيين بسبب تركيزهم على القضية القبطية فمعقد بعض الشىء. يوضح مايكل نبيل أن الكنيسة تلعب معهم لعبة تقسيم الأدوار: «بعض النشطاء يبدون بعض التطرف والحدة، فتكون ذريعة للكنيسة لأن تحكم سيطرتها على كل أحوال المسيحيين بدعوى أنها تحجز المتطرفين وتمنعهم من إثارة الأقباط، كما أن غضب مجموع الأقباط وارتفاع صوت بعض النشطاء حتى بما لا يعجب الكنيسة يكون مفيدا لها فى التفاوض مع السلطة وفى لعبة التوازنات معها».



تروى هالة المصرى أنها انتقدت أسقفا كبيرا وفى اليوم التالى كانت فى القداس فسلم عليها فظنت أنه لم يقرأ ما كتبته، وعندما أخبرته فقال لها: «أعرف، اكتبى كما تحبين». تقول ذلك لتشير إلى أن الكنيسة تتخذ موقفا معقدا منهم: «أمام السلطة والأمن تتبرأ الكنيسة منهم، ويقولون لا نعرفهم.



لكنهم راضون عن جهودنا وتعبيرنا. يرضون لو كتبنا وأشدنا بجهود الكاهن فلان والأسقف علان، ولكن أن ينسب الفضل لنا وتكون لنا شعبية تجعلنا نتحرك باستقلال فهذا ما يقلقهم. هم رجال دين ونحن أبناء كنيسة ونحن نحترم ذلك ولكنهم يريدون أن يكونوا أيضا ناشطين وزعماء».



الخروج من الشرنقة

بعد عودته من مظاهرة للأقباط المصريين أمام السفارة المصرية فى السويد، يستعيد مينا ذكرى ــ الناشط والباحث الحقوقى الذى انتقل مؤخرا للعمل هناك ــ الشعارات التى ترددت فيقول إن المظاهرة انتقدت بجرأة الدولة المصرية والرئيس مبارك، ولكن الهتاف المنتقد للكنيسة والذى يتهمها بالتخاذل لم يظهر إلا مرة واحدة وأحجم الجميع عن تكراره.



يرى مينا أن ذلك دال على السلطة القوية للكنيسة خصوصا فى عهد البابا شنودة، ويتذكر أن جيله تربى على مقولة غير موجودة فى الكتاب المقدس ولكنها تمثل تقليدا راسخا ألا وهى «ابن الطاعة تحل عليه البركة»، ومن يخرج عن طاعة الآباء يكون مهددا بالحرمان من البركة وهو ما يعنى للبعض كارثة ونهاية للعالم.



ويرى أيضا أن هناك جرأة من البعض تكاد تفلت من هذه السطوة، كان ذلك متاحا فقط خارج مصر ولكن الآن بسبب الإنترنت أصبح هناك دور أكبر للفرد ومساحة تحرر من كل سلطة مركزية.



هالة المصرى من جهتها متفائلة بذلك، وتقول إن خلف النشطاء والمدونين الذين يقدرون بالعشرات الآن، هناك مئات ممن يتعاونون معهم: «الناس أصبحوا يتصلون بى ويطلعونى على آخر الأخبار لأنشرها ولكنهم يقولون: لا تخبرى أبونا أننا من قال لك!».



مايكل نبيل من جهته يعتقد أن تزايد عدد النشطاء الأقباط حتى لو تضمن شعارات طائفية فهو ربما يكون مفيدا، فهو نفسه كان يعتبر نفسه ناشطا قبطيا بالمعنى الضيق عندما بدأ نشاطه بعد أحداث طائفية استفزته، ولكن مع بعض الوقت والنضج والقراءة طور تفكيره ورأى أن هذه المطالب يجب أن يتم العمل عليها من خلال مطالب سياسية عامة.



ولكنه من ناحية أخرى يرى أن الغضب من الانتهاكات والمظالم تزيد جاذبية النشطاء الأكثر طائفية والأكثر ارتكازا على خطاب دينى يشبه نفس خطاب المتطرفين من المسلمين وكل فريق يحشد الناس ويروج لكراهية الطرف الآخر.



ترد هالة المصرى بأن معظم المدونين و النشطاء الأقباط الذين ينشطون باسمهم الحقيقى ويضعون صورهم على مدوناتهم هم مسئولون فى خطابهم ويحترمون الآخر، بينما يأتى التطرف ممن يكتبون وينشرون بأسماء مجهولة. تضرب المثال بـ«الأب يوتا» وهو اسم مستعار نشر ردا على رواية «عزازيل» رأى فيها البعض ازدراء للدين الإسلامى، واتهم البعض مدونا هو المدون هانى نظير بأنه من يستخدم هذا الاسم، وتم اعتقال نظير ولم يطلق سراحه حتى الآن.



تبدى هالة المصرى أسفها على ذلك وتقول إن هانى كان يدون باسمه ويضع صورته وأنه كان مدونا مسئولا ولديه رغبة فى المشاركة رغم أنه من نجع صغير داخل قرية صغيرة داخل مركز أبو تشت (بمحافظة قنا)، وأنه كان جادا جدا والتحق بعد معهد الخدمة الاجتماعية بقسم الصحافة بآداب جنوب الوادى ليطور أسلوبه وتستبعد أن يتورط فى مثل هذه الأفعال.



«وحتى لو وقع بعض النشطاء الأقباط فى بعض التجاوزات التى لا ترضينى فهذا لا يمنع التفاؤل»، هكذا يرى مينا ذكرى ويشرح رأيه: «من الأفضل للقبطى أن يتجاوز الصورة النمطية التى تريد دائما أن تنفى المشكلات.



البعض يقول مادحا: لم أعرف لسنوات أن زميلى أو جارى قبطى! أو العكس، وكأنه لا فرق بينهم، لا بل هناك فوارق واختلافات بل وهواجس ومخاوف عند العامة من الناس وعلينا ألا نتجاهلها. من الجيد أن يسمع المسلمون لنشطاء يتحدثون بتعبيراتهم اللاهوتية الخاصة ويعبرون عن هواجسهم وأفكارهم. وعلى الطرفين أن يحاولا تفهم الاختلافات وحل سوء التفاهم بدلا من تجاهله».



الأكثر جاذبية فى ذلك فى رأى مينا هو خروج عموم الأقباط من حال التقوقع والصمت وأيضا بدء فاعليتهم الفردية بدلا من ترك كل شئونهم للكنيسة: «لنضع كل شىء على الطاولة، لنخرج من الشرنقة، لنكسر لعبة التوازنات والصفقات، ولننظر فيما بيننا من مشكلات بوضوح، هذا ما أريده أن يحدث».





ليبرالية وقومية مصرية

«سواء فى مصر أو خارجها، الفئات الأكثر نشاطا وسط الأقباط هم اليمينيون»، هذه هى ملاحظة مينا ذكرى ــ الناشط والباحث الحقوقى ــ التى يضعها آسفا معبرا عن دهشته من تقلص دور اليسار والاتجاهات الأكثر ديمقراطية: «ربما كان السبب أن هؤلاء يجعلون مشكلات الأقليات مشكلات مؤجلة وفرعية لحين حدوث (الثورة) أو التغيير الشامل للجميع».

بخلافه، يربط مايكل نبيل ــ عضو حزب الجبهة الديمقراطية ــ الأمر بـ«موضات فكرية» متغيرة. فى فترة كان اليسار أكثر جاذبية ولكن الآن هى لحظة الليبرالية، والنشطاء الشباب الأقباط يقبلون على الانضمام على أحزاب الوفد والغد والجبهة والمصرى الليبرالى تحت التأسيس.



يضيف مايكل نبيل: «بالطبع يفضل الأقباط الأحزاب الأكثر حديثا عن العلمانية لمواجهة نفوذ الإخوان المسلمين وتضخم دورهم».



ولكن هناك أيضا ميل قوى من نسبة من النشطاء الأقباط للانضمام إلى أحزاب تحت التأسيس تمزج الليبرالية بفكرة «القومية المصرية» التى تنادى باستعادة هوية مصرية خالصة وترفض الانضواء تحت راية قومية عربية أو إسلامية، ومن هذه الأحزاب «الحزب المصرى الليبرالى» تحت التأسيس التى تنشط من خلاله هالة المصرى.



تقول هالة إن القوميين العرب وبعض اليساريين تحالفوا مع الإخوان، ومعظم الأقباط لن يلتحقوا بتيارات تتحالف مع الإسلاميين: «حتى القضية الفلسطينية تحولت إلى نضال دينى بعد أن كانت نضالا وطنيا، والأمة العربية أصبحت تتبع بلفظ الإسلامية، وذلك كله فيه إقصاء للأقباط».






تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة