قضية محمد حجازي وحرية الاعتقاد الديني
قضية محمد حجازي وحرية الاعتقاد الديني
ياسين الحاج صالح /السفير
تفجرت قبل أسابيع في مصر قضية تحول محمد حجازي (25 عاما) وزوجته من الإسلام إلى المسيحية. وتروي مواقع ومدونات مصرية ملابسات متناقضة لتحولهما، وتعرض حياله ردود فعل حادة، إسلامية ومسيحية. التعليقات العقلانية نادرة في المقابل. على أية حال، واقعة تحول حجازي وزوجته مناسبة لهذه المقالة وليست موضوعا له. أما الموضوع فهو الإسلام وحرية الاعتقاد الديني.
دوافع محمد حجازي وزوجته للتحول من الإسلام إلى المسيحية غير مهمة إلا لهما وللمقربين منهما. وكان يمكن لتحولهما بالذات أن يكون واقعة ثانوية، تعنيهما ومحيطهما الضيق فحسب. فالأمر يتعلق بحرية اعتقاد أساسية، لا تستقيم حياة اجتماعية سوية ولا نظام سياسي، ولا الدين ذاته، من دونها. وحرية الاعتقاد لا معنى لها إن لم تشمل حرية عدم الاعتقاد وحرية تغيير الاعتقاد، وكذلك «حرية التحير» في قضايا الاعتقاد، الديني دوما. فإذا كان محرما علي تغيير ديني أو التخلي عنه، فسيكف الدين ذاته عن كونه ميثاق إيمان وانتساب لي ليغدو قيدا خانقا لا يطاق. وخلافا لما قاله أزهريون مصريون تعليقا على مقالة لشيخ الأزهر في صحيفة «واشنطن بوست» الأميركية، قبل أسابيع، من أن إباحة ترك الإسلام لمن فقد إيمانه أو تحول إلى دين آخر تعني جعله «ألعوبة»، فإن الإباحة هذه لا تختلف في شيء عن إباحة الطلاق: شيء يحق للمرء القيام به من دون أن يعني ذلك الدعوة إليه. بلى، لقد غدا الطلاق ألعوبة فعلا في مجتمعاتنا، لكن لأنه جُعل سلاحا إضافيا في ترسانة الأسلحة الذكورية ضد النساء. بيد أن هذا ليس برهانا ضد حق الطلاق. غاية ما قد يبرهن عليه هو لزوم قيام ثقافة زواجية مختلفة و«تمكين المرأة» بحيازة حق الطلاق، وتقييد هذا السلاح المطلق بيد الرجل. ويؤمل من ذلك أن يفضي إلى تكون «ذكورة دستورية»، متصالحة مع الأنثوي فيها وقربها، نقيضا لذكورة مطلقة بدائية مهيمنة في مجتمعاتنا وثقافتنا.
وبالمماثلة، تقتضي حرية الاعتقاد الديني تدينا إسلاميا مختلفا، يشتغل على الضمير والوجدان الفردي، لا التدين البراني المبني على الانتماء وعصبية «الأمة». تدين دستوري بدوره، لا التدين المطلق الراهن، العصبي والعصبوي. أما منع تغيير الدين في عالمنا المتزايد اختلاطا وتداخلا وتعارفا فسيثير شعورا باهظا بالتقييد والأسر.
وما كان لرجال دين مصريين، مثل الشيخ يوسف البدري الذي أشاد شهرته على التشهير بغيره، أن يتدخلوا في شأن تحول حجازي وزوجته إلا لأنهم يعتبرون أنفسهم من «المقربين» أو «أولياء الأمر»، أي لأنهم يصدرون عن مفهوم لـ«الأمة الإسلامية» يردها إلى ما يشبه رابطة أهلية أو عشيرة كبيرة، لا تعترف بالدولة الوطنية الحديثة ومؤسساتها وقوانينها ونظم الحقوق والحريات المحايثة لها مبدئيا. هذا مع ما هو معلوم من اهتراء هذه الدولة في بلداننا وعجزها عن القيام بوظائفها القانونية والتربوية.
على أن للأمر صلة أعمق بحال الفكر الإسلامي المعاصر. فمبدأ حرية الاعتقاد، رغم توفر آيات قرآنية متعددة تقرره، ورغم غياب آيات قرآنية قاطعة الدلالة تعارضه، ورغم أن نفيه يتعارض مع أي مفهوم متسق للدين وللإنسان بالذات، مرفوض في الإسلام المعاصر. وأصل ذلك في ما نرى هو ما نسميه عبادة الإسلام، أي انعقاد التقديس والعبادة والولاء على الإسلام معرفا كأمة وعقيدة أمة، لا كإخلاص الدين لله. الله ذاته مقيد بهذه العبادة، متعادل معها، وهو يبدو حاكما سياسيا أكثر مما هو طاقة تعال لا تتناهى، تفيض على الإسلام وكل دين.
ولعل أرجحية السياسي تفسر الغلبة المطلقة للفقهي في الإسلام العالِم والحركي المعاصر على الكلامي والفلسفي والأخلاقي. وفي إسلام الفقهاء والمجاهدين هذا يكف الإسلام عن أن يكون سبيلا إلى الله أو سبيل الله ليغدو الله حافظا غيورا للإسلام ودليلا هاديا إليه. بكلمات أخرى، يمسي الله للدين (و«الأمة»)، لا الدين (و«الأمة») لله.
وليس إلا طبيعيا أن يشعر دين تقديس الأمة هذا، الدين المتمركز على ذاته، العابد لذاته، أي الإسلام المعاصر (والأقدم، في الواقع)، بأن خروج حجازي أو غيره طعنة له في الصميم. ليس إلا طبيعيا أيضا رفض حرية الاعتقاد لأنها قد تمس الشكل الذي استقرت عليه «الأمة»، رغم أن هذا شكل ملتبس بالشرك من وجهة نظر التوحيد الإسلامي الصافي بالذات. وأعني بالشرك عبادة الإسلام مع الله، أو اغتراب الله في «الإسلام». إن تحرير الله، ونقض هذا الشرك الذي لا يختفي إلا وراء فرط ظهوره، هما بعدان جوهريان في أي إصلاح ديني إسلامي. ودون تحرير الله من «الإسلام» أو من «الأمة»، ليغدو معيار مساواة وحرية لا تستنفدان، سيبقى سبيل واحد مفتوح: تحرير الأمة من الله. بعبارة أخرى، ثمة خياران أساسيان: إما إصلاح الدين، أو الحرب ضد الدين. أما فرض الدين نظاما سياسيا، وهو مشروع الإسلاميين بعامة، ودعاة الحاكمية بخاصة، فهو أقرب إلى حرب دينية باسم الله ضد مجتمعاتنا المعاصرة. هنا الدين والدولة معا ضد الأمة. وهنا لا أفق للحرية من دون إصلاحهما معا. وإلا أخذت الحرية شكلا مطلقا ومدمرا: حرب ضد الدين والدولة معا.
يبدو هذا خارج سياقنا، لكننا نميل إلى أن تحرير الله من «المنظومة الإسلامية» القائمة والموروثة وحرية الإنسان لا ينفصلان. أو بالأحرى، إن الأساس العميق للحرية هو تعالي الله غير المتناهي على «الدين كله». وهو ما يجعل من كل منظومة اعتقادية ثابتة قيدا على وحدانية الله وتعاليه، وفي الوقت نفسه قيدا على مساواة الناس وحريتهم. الله واحد، لكن دروبه كثيرة، ومتساوية جوهرية، كما كان رأى ابن عربي. وهذا أساس الحرية. وسنلاحظ عابرين أن الفقه مبني على فكرة ندرة الدروب أو ندرة الخلاص. وهذا أصل التكفير وإنكار الحرية.
وإنما لقيام حرية الإنسان على تعالي الله ولا تناهيه، يغدو تقييد حرية الاعتقاد اعتقالا لله ذاته. ولعله لذلك أيضا لا تقبل حرية الاعتقاد الديني تسويات عقلية أو عملية. والقبول بأنصاف حلول لها يعني أن الله رب للمسلمين فقط، وأن الإسلام ميثاق لله مع المسلمين، ميثاق طائفي، وليس عهدا لله مع الإنسان، عهد توحيد ومساواة وحرية. أدرك أن التوتر موجود في الطور التأسيسي للإسلام وفي المتن العقيدي الإسلامي، توتر بين تعالي الله وتجسد إرادته في القرآن، وبين الوحدانية المطلقة المؤسسة للمساواة بين الناس عموما وبين الأمة الخاصة والتاريخية التي تكونت حول مبدأ الوحدانية.
بيد أن التوتر هذا حل تاريخيا لمصلحة الأمة واستملاكها لله أو إسلام الله لها، فيما يحوز التوحيد طاقة كامنة تتيح إصلاح المعادلة لمصلحة القطب الآخر، إسلام الأمة لله، بالمعنى الأصلي لكلمة إسلام. هنا أيضا أفق استراتيجي لكل إصلاح ديني إسلامي. فإصلاح الدين يقتضي بداية إرجاعه إلى الهيكل، والتوحيد هو أساس هيكل الإسلام. وفي الأصل كل إصلاح ديني هو عملية إعادة هيكلة للدين، أي إعادة ترتيب وتوزيع للقوى والركائز والأولويات الاعتقادية، بما تنتج عنه منظومة دينية جديدة. هذا على أية حال أفق فكري وروحي يستحق أن يستكشف.
على أن حرية الاعتقاد ليست حقا للأفراد فقط وإنما هي «حق للدين» ذاته، إن صح التعبير. فمنع الناس بالقوة من تغيير عقائدهم الدينية سيولد مع الزمن لدى أعداد متزايدة منهم الشعور بأن الدين سجن اعتقادي لهم، دين استبدادي كما نتحدث عن دول استبدادية، رعاياه «منافقون» وعبيد، ما ينعكس على الإسلام نفسه تدهورا في اعتباره وانحدارا في سمعته واحترامه. هذا قائم الآن ومتفاقم. لهذا نقول إن حرية الاعتقاد الديني، بما فيها دوما التحول نحو دين آخر أو التخلي عن أي دين، هي حق للدين، بقدر ما هي حق للمنتسبين إليه.
المبدأ والمعيار هو الحرية. وعلى الحرية يقوم الدين والحياة الروحية، وإلا لا تقومان أبدا. وإذا استوعبنا ذلك جيدا فإنه ينبني عليه أن حرية غير المؤمنين هي شرط حرية المؤمنين. هذا لأن الحرية هي حرية المختلف لا حرية المماثل أو الممتثل. هذا لا يطلب حرية. لذلك حرية الأقلية هي شرط حرية الأكثرية. وحرية الفرد هي شرط حرية الجماعة. ولا تكون جماعة المسلمين حرة إن لم يكن المسلمون الأفراد أحرارا في اعتقــــاداتهم الدينية.
إلى ذلك، بم يختلف منع الناس من تغيير دينهم عن فرض الدين بالقوة؟ ما من تلاعب يستطيع إخفاء ذلك. هذا هو ما يجعل الدين «ألعوبة»، أي مطية سلطة مطلقة ونفوذ غير مقيد لأشخاص ومجموعات لا ينضبطون بغير اعتقادهم بأنهم على حق، وأن الله معهم وحدهم، والدين في حوزتهم. ليست الغيرة على الدين كإيمان حي هي ما دفعت أمثال الشيخ البدري إلى القول ان من يتحول عن الإسلام مرتد، يستتاب وإلا فيقتل. إنها الغيرة على «أمة» صامتة، يشغل فيها سلطة مطلقة، غير منتخبة وغير مقيدة.
ومن غير المنصف أن يكون الناس أحرارا في الدخول إلى الإسلام، فقط ليفقدوا حريتهم بعد إسلامهم، حسب شرح السيد البدري. هذا ليس تلاعبا بالحرية وحدها، بل بالدين، وبالأخلاق كذلك. فثمة عقد مضمر في اعتناق المرء أية عقيدة أو دين: أنه يستطيع أن يترك حين يفتر إيمانه أو يفقد اقتناعه أو يهتدي إلى إيمان مختلف. هذا لأن الدين عقد حر بين الإنسان والله، وليس عقدا مشكلا للأمة. والإنسان هو الفرد وهو جميع الأفراد، أي الإنسانية، لكنه ليس أية مجموعة من الأفراد أو أية «أمة». القول إن الإسلام ليس كذلك لأنه ليس دينا فحسب، وهو قول الشيخ القرضاوي ومدرسة الحاكمية، يفتح بابا للتعسف والسلطة المطلقة ويغلق أبواب الإيمان والحرية معا.
والمسألة تعنينا جميعا، على اختلاف أدياننا وإيديولوجياتنا، في البلدان العربية. فلا تستقيم حياتنا العقلية والأخلاقية دون التكافؤ في حرية الاعتقاد. ومن المهين لثقافتنا ولضمائرنا، وللإسلام بالذات، أن نرحب بتحول غير مسلمين، في بلادنا أو في الغرب، إلى الإسلام، ثم نحجر، أو تحجر السلطات الدينية وبتواطؤ من سلطات سياسية فاقدة للشرعية ولا تجرؤ على التدخل في الدائرة الدينية، على الحياة الاعتقادية للمسلمين.
في مجتمعاتنا الراهنة، المصري منها والسوري منها والسعودي منها..، أناس غير مؤمنين وأناس متفاوتو مراتب الإيمان، فضلا عن مؤمنين مسلمين وغير مسلمين. ويتنامى طلب هؤلاء وأولئك على أن يعيشوا حياتهم بصورة متسقة، دون أقنعة وحجب. إننا لا نطيق «النفاق» اليوم، لا لأنه خلل في الدين، بل لأنه خلل في إنسانية المرء وشرفه. من المتوقع لذلك أن تظهر مبادرات متعددة للتخلي عن الدين، وجعل ذلك قضية عامة عبر وسائل الإعلام أو بالهجرة إلى الغرب، أو لتغيير الدين كما فعل حجازي وزوجته. ويرجح للجهاز الديني الإسلامي الذي سيشعر بالتهديد من جراء احتمالات كهذه أن يطور ذهنية تفتيشية، نوعا إسلاميا من مطاردة المثقفين ومتحرري التفكير والنساء السافرات.. يحاكي مطاردة الهراطقة والساحرات في نهاية العصور الوسطى في أوروبا الكاثوليكية. وهذه ذهنية نجدها منذ الآن مزدهرة في مصر، ولطالما كانت مصر نموذجا مبكرا لما ستعرفه البلاد العربية الأخرى بعد بضع سنوات.
وإنه لمن المثير للتأمل أن النفاق اليوم نابع من تكوين الإسلامية المعاصرة، حركة «الصحوة الإسلامية»، بالتحديد غلبة الفقهي والحركي والسياسي على الإيماني واللاهوتي والأخلاقي في بناها التنظيمية وفي وعيها لذاتها. هذا بدل أن تتولى هي قبل غيرها مكافحة النفاق، وتتصدر النضال النظري والعملي من أجل أن يحيا الناس حياة أخلاقية متسقة. هذا ما يجدر بصحوة صاحية أن تبادر إليه.
التفاعلات الغاضبة في مصر لقضية محمد حجازي وامرأته قد تكون مثالا باكرا لظاهرة ربما تتعمم في مستقبل وشيك. دولنا مرشحة لمزيد من العجز في هذا الشأن وغيره. والمثقفون المرشحون للملاحقة من قبل «البدريين» هم المؤهلون لدفاع متسق عن حريات التفكير والاعتقاد والرأي والضمير، الحريات التي لا تستقيم حياة ثقافية أو روحية أو دينية في غيابها. لا يستقيم شيء! لا يستقيم! لا يستقيم!
كاتب سوري
تعليقات