محمد السيد السعيد يكتب

للنقاش
["عمنا" عطية الصيرفى كما يناديه العمال والمثقفون محبوب اليسار بكل فرقه وتياراته وهيئاته. كان دائما موضع اجماع فريد: هو النموذج الخالص للمناضل العمالى الصلب, وهو القدوة الحقة عندما نأمل أن نعيد الالتحام بالشعب وقيادة نضاله من أجل العدالة والتحرر الوطنى والنهضة. هو ايضا الانسان البسيط المحب المتواضع ذو الحس المرهف, هو ببساطة كل ما يتمنى مناضل اليسار أن يكونه أو يتمثله ويستلهمه.اكن له شخصيا بالسمع أكثر من المعايشة المباشرة مشاعرا قوية وفياضة, حتى أنى مستعد لأن أجلس فى مدرسته ليعلمنى كل ما لم أتمكن من تعلمه.وشخص هذه صفاته يغرينا فى العادة بأن نصغى بل وأحيانا نمتثل لآرائه. ولكنى لا أظن أن هذا هو ما يطلبه منا دائما. وحتى لو طلبه فى لحظة محددة أو حول قضية بعينها فأنا من الناس الذين يميلون لمنح كلماته واراءه وزنا خاصا جدا حتى قبل أن نبدأ أى مناقشة.ولكنى ولأسباب تاريخية كثيرة أرغب فى مناقشة ما طلبه منا آخر مرة: ادانة وشجب الأستاذ حسين عبد الرازق لقيامه بزيارة كردستان العراق ولقاءه مع جلال طلبانى رئيس العراق المحتل ونشره لهذا اللقاء فى الشقيقة "الأهالى". ما يهمنى هنا هو اثارة النقاش حول القضية وليس ايضاح موقفى الشخصى منها. ثمة موضوعان يختلطان هنا وأرغب فى اثارة النقاش حول كل منهما على انفراد دون أن نصل بذلك بالضرورة للقول بانفصالهما التام: قضية الموقف السياسى من جلال طالبانى والحركة الكردية بوجه عام وموقفها من قضية غزو واحتلال العراق من ناحية وقضية اللقاء الصحفى مع قيادة كردية شاركت الأكراد أو أغلبيتهم فى الموقف الذى قاد الى كارثة احتلال العراق. الأولى قضية سياسية والثانية قضية مهنية, وبينهما بالتأكيد علاقة أو ارتباط ولكنى أزعم أنه ارتباط لا يصل للتماهى أو التوحد. الموقف السياسى من الحركة الكردية الراهنةيلخص "عمنا" عطية الصيرفى موقفه فى ادانة شاملة وكاملة للقيادات الكردية عموما ولجلال طلبانى الذى التقاه الأستاذ حسين عبد الرازق لقاءا صحفيا فى عدد من النقاط والحجج السريعة.أول هذه النقاط أن الحركة الكردية خائنة لأنها شاركت وسهلت على الامبريالية الأمريكية غزو واحتلال العراق.والثانى أنها بصفتها هذه تكون قد انتقلت جذريا من موقع ما لم يحدده (هل كانت قبل المشاركة فى الغزو والاحتلال حركة تحرر وطنى أم كانت فى نفس الموقع حركة عميلة للاستعمار؟) الى موقع العمالة للامبريالية الأمريكية. يبدو أن العم عطية كان على استعداد ما للقبول ببعض معطيات ايجابية فى "تاريخ" جلال طالبانى, اذ أشار الى ".....".وثالثا: ان زيارة الرجل ولقاءه لقاءا صحفيا بهدف النشر فى صحيفة يسارية "خيانة لمبادىء اليسار" وأمر يستحق الادانة والشجب بكل قوة. لا أدعو لمناقشة هذا التشخيص لأنى مختلف معه بالضرورة, وانما لكى نصل فيه الى دائرة ما للاتفاق والاختلاف. فمعرفتنا بهذه الدائرة مفيد للغاية بحد ذاته وهو يصنع لنا مؤشرا جيدا نستطيع أن نختبره بالتجربة والخبرة كما تعلمنا من الفلسفة الاشتراكية. فالممارسة هى أساس كل معرفة. يهمنى أيضا أن أشير ابتداءا لحقيقة أن الموقف الذى يعبر عنه عمنا وأستاذنا عطية هو رأى الأغلبية من المهتمين بالشأن العام فى مصر. اذ تجمع عليه التيارات الناصرية والاسلامية, بل وربما أيضا أغلبية العاملين بالجهاز الاستراتيجى للدولة. أما فى صفوف الماركسيين فهذه القضية تشكل محورا هاما للخلاف. ما هو أساس الخلاف: الجانب العام من الصورة؟لا خلاف مطلقا فى دوائر اليسار حول توصيف الغزو والاحتلال الأمريكى للعراق وادانته ودعوة كل القوى داخل وخارج العراق للنضال ضده. هو هجوم استراتيجى مضاد لارث وانجازات حركات التحرر الوطنى يستهدف اعادة العلاقات الكولونيالية وبناء امبراطورية أمريكية وتثبيت القطبية الواحدية وفرض حصار ضيق على القوى العالمية الجديدة وخاصة الهند والصين, وسحق المعارضة الوطنية فى العالم العربى كله وتحويله لحظيرة اضافية خاضعة للامبريالية الأمريكية منفردة فضلا عن تركيع وهزيمة الحركة الوطنية الفلسطينية وتمكين اسرائيل من القيام بدور مهيمن لصالحها الخاص ولصالح الامبريالية الأم.هذا كله متفق عليه. ما هو موضع خلاف هو ضرورة اضافة معطيات أولية محددة لهذا التشخيص للموقف التاريخى الذى وقع فيه الاحتلال الأمريكى للعراق والاستراتيجية المحددة التى يتبناها اليسار فى النضال لاسقاط وهزيمة المشروع الأمريكى, ومكانة المسألة الكردية فيه بالتحديد.لا يمكن ابتداءا النظر لطبيعة نظام صدام حسين باعتبارها مسألة هامشية فى تشخيص الموقف العراقى والعربى الراهن. فالحكم الأساسى على اية لحظة أو حالة تاريخية لأى مجتمع يجب أن يستند أساسا على طائفة من الاعتبارات التى تتركز على أداء الدولة والنظام السياسى وعلاقته بالمجتمع وحالة هذا المجتمع فى ظل نمط بعينه من العلاقات الطبقية. ويمكننا بكل بساطة أن نلخص كل شىء فى سؤال واحد: هل يعيش هذا المجتمع فى هذه الحقبة حياة "مقبولة" بأوسع معنى لهذه الكلمة.يستحيل على أى مراقب نزيه أو موضوعى أن يتجاهل حقيقة أن نظام صدام حسين كان يهدم معنى المجتمع من أساسه, وانه نظام يقوم على ألة قتل هائلة تستهدف كل جماعات السكان المنتشرة عبر لوحة الهويات المعروفة كلها. لا يمكن تجاهل الطبيعة الابادية لهذا النظام وما يترتب على سياساته الشمولية الابادية من تصفية لأبسط معانى المدنية والانسانية, ولا يمكن تجاهل تصفيته العمدية لكل التوجهات والتيارات السياسية. وبكل بساطة لا يمكن تجاهل الأسباب التى دعت قوى كثيرة فى المجتمع العراقى للنظر للغزو باعتباره الطريقة الوحيدة للتخلص من نظام يدمر المجتمع ويستأصل تيارات الفكر والسياسة ومصالح جوهرية لفئات أساسية فى هذا البلد المكلوم, ومن بينها مثلا الحزب الشيوعى العراقى والأمة الكردية ككل.فى اللحظة الراهنة لم يعد التذرع بالماضى أمرا له قيمة. صار الماضى مسألة تاريخية بالنسبة لتيارات السياسة والفكر. ولكن المسألة الكردية تظل ذات خصوصية شديدة جزئيا بسبب الماضى وجزئيا بسبب معطيات المستقبل. أظن أنه ينبغى الاعتراف بخصوصية المسألة الكردية ابتداءا لأنها تنهض على حقيقة أن الأكراد أمة مستقلة عن العرب. هى فى كل الأحوال جماعة قومية. وعندما نستشير تقاليد اليسار التاريخية نجد أن القاعدة الرئيسية هى الاعتراف للقوميات بحق تقرير المصير. وثمة تقليد لا يقل أهمية فى الممارسة التاريخية وهو يقوم على معنى الأخوة والتزامل بين الشعوب والأمم المستقلة ومن ثم التركيز على "وحدة الدولة وتكاملها الاقليمى" دون اجحاف بحق تقرير المصير.تحل مختلف الدول اشكالية المزاوجة بين معنى الزمالة والتحالف والوحدة من ناحية وحق تقرير المصير من ناحية أخرى وفقا لمعطياتها. وبالنسبة لحالة الأكراد ليس من الممكن تجاهل البعد التاريخى وخاصة فى ظل نظام صدام حسين الذى قام بضربهم بالغازات السامة (حلبجة مجرد نموذج) وبحملة الأنفال.كون الأكراد العراقيون ذاكرة تاريخية مريرة. وتشمل هذه الذاكرة حقيقة أن "الأمريكيين" ولا أتكلم هنا عن الأسباب هم الذين وفروا لهم الحماية (بالمقارنة مثلا مع الشيعة) بعد ثورة مارس 1991. ويوفر الأمريكيون كذلك حماية للأكراد حتى بمواجهة كل من ايران وتركيا اللتان ترفضان تمتعهم بالاستقلال الذاتى أو بحق تقرير المصير وتستمر تركيا بالذات فى استهداف المنطقة الكردية. وفى الظروف التى تلت الاحتلال يخشى الأكراد كذلك من النمو المذهل للتنظيمات السنية المتطرفة وخاصة القاعدة والبعث. وتشكل لهم مظلة الحماية الأمريكية عموما ضمانا للبقاء. ومن هنا تنشأ الضرورة الموضوعية والذاتية لدى الأكراد فى التحالف مع الأمريكيين ودعم المشروع الاحتلالى الأمريكى للعراق.ولا شك أن هذا الموقف يفضى لتناقض هام مع حركة التحرر الوطنى العراقى وحركات التحرر العربية. ولكن وهذا هو موقفى لا يجب أن نطور هذه التناقض الى مستوى القطيعة والخصومة السياسية التاريخية. ذلك أننا لا نخسر فى هذه الحالة زعماء بعينهم مثل الطالبانى أو البرزانى (وهو قطعا اسوأ لنا بكثير) وانما نخسر الشعب الكردى بكاملة ونحول تناقضا يمكن حله فى المستقبل لصراع مستحكم يصل الى مستوى الاستئصال.ويشدد على أهمية هذا الموقف الاعتدالى وخاصة من جانب المصريين والتقدميين منهم بالذات أن "المقاومة العراقية" لا تتفق اطلاقا مع الموقف التقدمى الذى يجب أن نلتزم به. انها تستمر بمعنى معين "مقاومة مشروعة" ولكن هذا الوصف السليم لا يجب أن ينسينا صفة أخرى لها وهى أنها ليست استئصالية فحسب بل وابادية أيضا. وتضيف هذه الخاصة تعقيدا فوق التعقيد الأصلى للمسألة العراقية.فاذا كان هذا التشخيص الأكثر اكتمالا فى تقديرى سليما فان لقاء الأستاذ حسين عبد الرازق مع جلال طالبانى لا غبار عليه من حيث المبدأ وخاصة لو أنه كما فعل شرح له وجهة النظر العربية والتقدمية ولو من خلال الأسئلة.واجبات الصحفى: الجانب المهنى لأداء صحف اليسارثمة جانب أخر تماما من الصورة. فلو افترضنا أن تشخيص عمنا عطية سليما وكافيا, فهل يترتب على ذلك أن يمتنع الصحفى التقدمى واليسارى عن مقابلة الزعماء الأكراد؟أطرح هذا السؤال لاستمزاج الرأى العام التقدمى واليسارى حول هذه القضية. ان واجب الطبيب يملى عليه أن يعالج خصومة. وواجب الصحفى أن يقدم لقراءه مادة موثقة مع خصومه السياسيين, بما فى ذلك العمل الميدانى والتحليل الخبرى واللقاءات الصحفية المباشرة.لا أرى غبارا فى أن نلتقى مع كافة الخصوم باستثناء اسرائيل بغرض تقديم معلومات من مصادر أولية. وأتصور أن الاحتجاج على اللقاءات الصحفية مع الأمريكيين مثلا أمر غير مبرر, وأتصور أن واجب الصحفى هو أن ينقل لقراءه صورة دقيقة عن تفكير حتى أسوأ الأمريكين طرا وهو الرئيس بوش وأمثاله. نحتاج هنا الى موازنة دقيقة فى صحافة اليسار بين واجب الصحفى تغطية الأحداث ونقل الصور والأفكار والسياسات التى ترسمها "المصادر" السياسية حتى لو كانت خصما مباشرا للاشتراكية والتحرر الوطنى والتقدم, من ناحية وبين واجب الصحفى فى شرح دلالة ومضاعافات هذه الأحداث والمواقف والسياسات التى تأخذ بها قوى خصم أو قوى غير صديقة أو قوى صديقة ولكنها ذات توجهات مختلفة واجتهادات أخرى تماما غيرنا.ويعنى ذلك أن الصحفى اليسارى والصحيفة اليسارية لا يجب أن تكتفى بنشر الأخبار أو اللقاءات الصحفية مع زعماء مثل جلال طالبانى نختلف معه بشدة فى موقفه من الاحتلال الأمريكى ومن قضايا بناء أمة ومجتمع فى العراق. فنحن ملزمون أيضا بأن نشرح وأن نعقب وأن نمكن قراءنا من فهم أعمق لما يجرى حولهم ولمواقفنا نحن بالذات كيسار وكقوى وطنية. ولكن هذا الواجب لا يجب أن يطغى تماما أو أن ينسينا واجبنا فى أن ندع قراءنا يطلعون بأنفسهم ويفهمون مباشرة ما يجرى حولهم. من أساسيات العمل المهنى فى الصحافة ان ندع الجمهور القارىء يحكم بنفسه على ما يجرى من حوله بعد امدادة بالخدمة الأساسية التى تقوم بها الصحافة وهى المعلومات.ما رأيكم أنتم؟يهمنا جدا أن نسمع لأرائكم. وكما قلت لا يمكن أن يكون زعيم تقدمى وشعبى مثل العم عطيبة الصيرفى خاطئا تماما فى موقفه, ولكن سلامة موقفه لا يكتمل بدون أن نسمع جيدا لبعضنا البعض. من جانبى أنا أكثر الناس بعدا عن الزعم باحتكار الحقيقة وأرغب جدا فى أن اسمع لجميع الرفاق والزملاء, والأهم أن أستمع أيضا لشعبنا.دعونا نقرأ اجتهاداتكم ومناقشاتكم حول هذه القضية ودعونا نصبر قليلا على الحوار حتى نصل لأفضل تركيب ممكن من المواقف التقدمية. ننتظر أرائكم .مع خالص التقدير لكل من يشارك فى هذا النقاش.محمد السيد سعيد
التعديل الأخير تم بواسطة : محمد السيد سعيد بتاريخ يوم أمس الساعة 09:12 PM.

نقلا عن منتيدات البديل

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة